توجه مؤمن للمسجد الصغير المجاور لمنزله ليؤدي صلاة العشاء .. وذلك قبل ذهابه لمشاهدة مباراة في كأس العالم عند أحد الأصدقاء.
عند اقترابه من المسجد .. تفاجأ بسماعه لأصوات مرتفعة .. آتية من مكان الوضوء!! .. ذهب مباشرة ليعرف ما وراء هذا الصراخ الغريب.. وإذا بشخصين يتبادلان الشتائم والاتهامات .. لسوء تفاهم حدث بينهما داخل المسجد !.
تردد مؤمن في اللحظات الأولى لرؤيته لهما .. هل يتدخل لإنهاء هذا الخلاف .. أم لا ؟! .. فقد شعر أن دوره سيكون هامشياً في مشكلة كهذه.
لكنه سرعان ما حسم أمره .. متجهاً نحوهما .. حين انتبه أن أحدا لم يحرك ساكناً لمحاولة تهدئتهما !!
” اذكروا الله يا اخوان .. فأنتما في بيت من بيوته ”
تفاجأ مؤمن لتوقف الشخصان المتنافران عن الكلام تماماً.. بمجرد سماعهما لما قاله لهما .. وكأنهما كانا في انتظار أحد ليوقظهما من غفلتهما.
ذهب بعدها كل منهما في حال سبيله ليكمل وضوءه ويستعد لأداء الصلاة ..وعلى ذلك .. انتهى الخلاف بينهما بسلام.
لم يتوقع مؤمن أن يُنهي تدخله الخلاف بتلك السرعة .. وأن يكون لكلماته البسيطة هذه .. ذلك الأثر الكبير .. خاصة أنه تردد للحظات .. معتقداً أنه لن يصنع الفارق .. وتذكر حينها قول الرسول (ص): “لا تحقرن من المعروف شيئا” .. وتعلم درساً مهماً من هذا الموقف الصغير.. وهو أن يكون أكثر “مبادرة إيجابية” في المستقبل .. وأن لا يقلل أبداً من أي عمل خيرٍ يقوم به مهما كان صغيراً.
أدى مؤمن صلاته .. وبعد انتهائه منها .. جلس قرب إحدى زوايا المسجد .. وأخذ يفكر فيما حصل معه في ليلة الأمس .. حيث أنه عرف أخيراً الطريق المناسب الذي يريد أن يسلكه.. وبدا مرتاحاً لقراره ترك المكان الذي يعيش فيه .. وما عليه الآن سوى الاجتهاد في البحث عن آخر.
وقبل خروجه من المسجد .. توجه إلى الله داعياً: أن يساعده ويوفقه في اختيار البيئة الجديدة التي تلبي رغباته وطموحاته.
انطلق مؤمن بعدها بسيارته السوداء .. فمباراة ألمانيا واستراليا على وشك الانطلاق .. كان ينتظرها بفارغ الصبر .. فكأس العالم لا يتكرر إلا مرة كل أربع سنوات .. ومباريات المنتخب الألماني تحديداً كان لها مذاقاً خاصاً عند مؤمن.
لقد تعلم بعض المبادئ من متابعته للفريق الألماني .. التي كان يحاول دائماً تطبيقها في حياته العملية .. وقد كان ذلك هو السر وراء حبه للماكينات الألمانية.. فهو فريق يعتمد على “العمل الجماعي” ولا ينتظر أن يكون فرداً في قمة مستواه لينتصر الفريق بأكلمه .. بالإضافة إلى أنه “لا يعرف اليأس” .. ولا يستسلم أبداً مهما كانت النتيجة والظروف.
وصل مؤمن لمنزل صديقه “مسعود” .. الذي استقبله استقبالاً حاراً .. فهو من محبي منتخب ألمانيا أيضاً .
ومنذ انطلاق المباراة.. والصديقان يتابعانها بحماس شديد .. فأحداثها كانت رائعة جداً من جانب فريقهما المفضل .. لقد قدم أداءً ممتعاً .. بلمسات فنية مدهشة أطربت الجماهير .. وأحرز هدفاً تلو الآخر. إلى أن انتهى اللقاء بفوز ساحق .. وبأربعة أهداف جميلة.. من دون أن يقترب الفريق الأسترالي من مرمى خصمه الألماني.
بعد انتهاء اللقاء .. جلس الصديقان ليتكلما عن أحداثه .. وعن أجواء كأس العالم بشكل عام .. وتطرقا أيضاً إلى حظوظ الفرق العربية هذه السنة .. واتفقا بأنه ما زال أمام منتخباتنا الكثير .. لتفعل شيئاً مميزاً .. خاصة بعدما خرجت الجماهير العربية من أيام قليلة .. لتحتفل في الشوارع والميادين .. بعد “تعادل” أحد فرقها مع منتخب كبير في كرة القدم !.
وأثناء الحديث .. تذكّر مؤمن أن معلق اللقاء ذكر أن هناك جالية عربية ومسلمة كبيرة تعيش في استراليا .. وتذكر أيضاً أن أحد أقرباء صديقه مسعود يعيش هناك منذ فترة ليست بالقصيرة.
فسأل مؤمن مسعوداً .. عن الأسباب التي جعلت قريبه هذا يبتعد عن بلده وأهله طوال هذه السنين ؟!
فأجابه مسعود أنه أراد أن يبحث عن أوضاع معيشية أفضل .. فهو لم يحصل على أي تقدير أو تشجيع في مكان عمله.. و لم يجد فرصة عمل أخرى تناسبه .. برغم اجتهاده الكبير في البحث عنها .. واستمر على هذا الحال لعدة سنوات .. إلى أن توصل لقرار السفر للخارج والعودة بجنسية أجنبية .. تعطيه ميزات كثيرة .. يفتقدها في بلده !.
“وهل عاد ليسترجع هذه الميزات المفقودة ؟!”- تساءل مؤمن من جديد – فرد مسعود : ” لا.. لم يعد إلى الآن .. فهو يشعر بالرضا بعدما حصل بالفعل على الميزات التي كان يبحث عنها هنا .. بالإضافة إلى أنه اعتاد على نمط العيش هناك .. ولا يرى داعياً للعودة من جديد ”
واستمر مؤمن في سرد اسئلته .. ليعرف المزيد عن حياة المغتربين في الخارج .. ومسعود يرد عليه بما يعرفه عنهم .. فاتصاله الدائم بقريبه وبعدد من أصدقائه .. جعله يعرف الكثير عن إيجابيات وسلبيات تلك الحياة.
تبادل مؤمن التحية مع صديقه بعد انتهائهما من جلستهما الطويلة .. وشكره كثيراً على حسن ضيافته وعلى معلوماته الجميلة التي أفاده بها.
” اااخ .. كان يوماً طويلاً ومليئاً بالأحداث .. أحتاج كوباً من الشاي الأخضر.. ليريحني قليلاً” هكذا حدث مؤمن نفسه حينما وصل إلى منزله .. بعد قضاء وقت ممتع عند صديقه.
وبعد قسط من الراحة .. ذهب مؤمن إلى مكتبه ومفكرته البيضاء .. ليكتب ما تعلمه من الموقف الذي تعرض له في المسجد في ذلك اليوم .. فقد اعتاد على تدوين ما يستنتجه ويستخلصه من مواقفه الحياتية .
وبعد ذلك .. أخذ يفكر مؤمن في قصة قريب مسعود .. فهو يجدها تشبه قصته إلى حد ما .. وتشبه أيضاً قصص الكثير غيرهما.
بدأ مؤمن يفكر بالسفر لأستراليا كما فعل ذلك الشخص ..لأنه إن أقدم على هذه الخطوة .. فسيتخلص من الأجواء غير المريحة التي يجدها ممن حوله في العمل .. إضافة إلى ذلك .. سيعيش في مكان جديد ..وفي مجتمع جديد ومع أناس جدد .. وبذلك ربما يكون قد نال مراده بالانتقال إلى البيئة والمكان المناسبين الذين دعا الله أن يوفقه في إيجادهما.
” ممم .. نعم .. ولم لا ؟؟ لم لا تكون خطوتي القادمة هي السفر لبلد كأستراليا .. فربما وجدت ما أبحث عنه هناك – كان في تلك اللحظة يفكر في الحلم الذي يراه في منامه بشكل مستمر- .. أعتقد أنني سأكسب الكثير إن أقدمت على خطوة كهذه”.
لكنه تذكر ما قاله مسعود .. عمن يعيش هناك .. وعن مدى تأثير هذه المجتمعات على شخصياتهم وطريقة تفكيرهم.
ومهما كانت الدوافع قوية للإقدام على خطوة كهذه .. لا يريد مؤمن أن يتعجل وأن يتخذ قراراً مهمَّاً كهذا بتلك السهولة.. فهناك نقاط كثيرة يجب أن يضعها في الحسبان.
فظروف الناس وأحوالها تختلف عن بعضها في النهاية .. وإن بدت متشابهة بعض الشيء .
فمؤمن لا يريد أن يفقد جزءاً كبيراً من هويته العربية .. كما هو الحال مع أغلب من قرر الاغتراب وترك الوطن .. وهو يخشى أيضاً أن يفقد الكثير من اتقانه للغته الأم – التي يعتز ويفخر بها دائماً – .. ويخشى أيضاً أن يفقد الكثير من دفء المشاعر التي تميز مجتماعتنا العربية والإسلامية عن بقية المجتمعات .. فقد تفاجأ صديقه مسعود ببرود الاستقبال الذي لقيه من أقربائه حين ذهب لقضاء عطلته الأخيرة معهم في استراليا!.
توقف مؤمن للحظات .. وأخذ نفساً عميقاً .. بعد أن شعر أنه في مفترق طرق .. فقد اصطدمت رغبته الجامحة في التغيير.. بعوامل أخرى يخشى أن تؤثر عليه سلباً وتفقده الكثير مما يميزه.
وبعد تفكير عميق .. توصل مؤمن لسؤالين هامين جداً .. سيساعدانه كثيراً في اتخاذ القرار:
هل سيخدم السفر للخارج هدفه في الحياة؟
وكيف سيخدم السفر للخارج هدفه في الحياة؟